الفن والحرب- مرثية للدمار أم تجميل للواقع المرير؟
المؤلف: عبده خال10.04.2025

ثمة أصوات تتعالى بالشكوى من ضعف وهشاشة الفنون، وتزعم أن معالجة هذا الضعف الملح تحتاج إلى حرب طاحنة تعيد المأساة الإنسانية إلى دائرة الضوء. هذا الرأي يحمل في طياته غلواً مفرطاً، أو ربما خداعاً سافراً. ففي حين يدعي البعض أن الحرب تعيد تنظيم السلوك العالمي وترسيخ قواعد أخلاقية جديدة، يجب على هؤلاء المتحمسين للحروب الشاملة أن يعلموا أن الواقع الحالي ينذر بتلك الحرب. نحن نعيش في زمن تتداخل فيه المفاهيم السياسية، ونخشى من استمرار المناورات الكلامية التي قد تفضي إلى صراع حاد بين المصلحة الوطنية والانزلاق إلى تلك الفوضى التي تؤدي إلى حرب شاملة. هذه الحرب تأتي من خلال تدمير المجتمعات، والاستيلاء على الممتلكات والحقوق، وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق، وهو ما تعاني منه أجزاء من هذه المنطقة الجغرافية. الرئيس ترمب يوجه ضربات قوية إلى نقاط حساسة، وإذا أصابها فسيؤدي ذلك حتماً إلى كسر استقرار المنطقة واندلاع حرب شاملة.
ليس من الحكمة أن نقترب من نار ملتهبة لنتأكد من أن الحرب تنتج فناً عظيماً.
لسنا بحاجة إلى مسرحية (جنرال الشيطان) التي سلط فيها كارل تسوكماير الضوء على الماضي النازي الملطخ بالصراع بين الضمير والطاعة، وتدهور القيم الذي أفرز ذلك الوحش النازي المدمر للإنسانية. كما أننا لسنا بحاجة إلى لوحة فنية تمدح قرارات الرئيس ترمب أو ترفضها.
نعم، الواقع مليء بالمسرحيات التي لا نكتشف أبطالها إلا بعد فوات الأوان، ولن نُخدع بروايات تُوصف بالإبداع بعد موت الملايين. هذا ما تفعله الأعمال الفنية والأدبية بعد وقوع الكارثة، فتكون مثل النائحة المستأجرة التي تبكي على من لا تعرفه. هذا هو حال الفنان أو الأديب بعد (حرق مالطا). فالأعمال الفنية التي تخرج من أتون الحروب تشبه ما يفعله حيوان (الضبع) الذي يعيش على الجيف، بينما لا يكون له دور أمام الأحياء، أو كعمل (المتسبب) الذي يبحث في الأنقاض عما يجده ليبيعه.
فما يُكتب من رواية أو شعر بعد أي دمار، يكون المنتج كتوزيع وجبة مؤلفة بشكل أساسي من الدماء المتخثرة.
عندما نسترجع الذاكرة إلى الإنتاج الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، نكتشف حقيقة مرة تتمثل في تأخر الأدب عن الواقع. كانت الرؤية المستقبلية ضبابية، ومهما كانت روعة ما كُتب عن الدمار، فإنه لا يفي بحجم كارثة الحروب. فلوم الروائي الألماني هاينريش بول في رواية (صورة جماعية مع السيدة) بأن الحرب كسرت القيم والمثاليات، إلا أن اندلاع الحرب هو الكسر الفعلي للإنسانية. فهاينريش لم يقدم إنتاجه الأدبي إلا بعد الحرب والدمار، فكيف أسس لومه؟ لم يكن هناك تأسيس للوم أو الحزن، فمثله روائيون كثر كانت كتاباتهم ردود فعل لما أحدثته الحرب من دمار. وحين كتب الروائي غونتر غراس رواية (الطبل والصفيح)، أراد لذاته ألا تكبر، وليس بطل روايته هو المعني بذلك، هو أراد بتلك الحيلة السردية البقاء في أزمة وأزمنة الحرب لكي يتماسك حيال انكسار الذات وعدم تلاؤمها مع ما حدث، كما أن روايته (سنوات البؤس) جاءت لاحقة في تجسيد بؤس الكتابة الإلحاقية، المتأخرة التي تؤكد عجزها عن استشراف ذلك الدمار.
كل الآداب والفنون التي تلت الحروب ما هي إلا صور فوتوغرافية التقطت بعد وقوع الكارثة، إلا أن تلك الأعمال الأدبية والفنية صور تزين مدخل مقهى لاحتساء مشروب قديم، وتوهمنا على قرع الكؤوس بأن الصور المأخوذة كانت بديعة في صياغتها الأدبية، وقاسية في تجسيد ما حدث، وشاهدة على أن الحرب هي تدمير للإنسانية. وكلما ابتعدنا عن زمن الحرب، نتغاضى عن الجماليات الفنية لما كُتب عن كوارث الحروب.
الآن، ونحن نعيش تقلبات الحروب المتناثرة التي قد تتحول إلى حرب شاملة، فإن ما ستنتجه من أدب وفن سيكون وجبة شهية للأجيال القادمة، يتناولونها بشغف باعتبارها الإبداع الحقيقي لهذه الحقبة الزمنية.
نعم، ستنتج تلك الحروب المدمرة فنوناً، وسيحمل منتجوها ألقاباً وأوصافاً إبداعية، وسترتفع الأصوات بأنهم ناصروا صحوة الضمير الإنساني، ولكن الحقيقة هي: موت الإنسان تحت وطأة القصف المدفعي والقنابل المتفجرة والطائرات المسيرة. حقاً، لم يكن للمتحاربين ضمير إنساني خلال كل الحروب، فليست هناك إنسانية في فترة الحرب ذاتها أو بعد انتهائها.
الواقع المرير يمتزج بجماليات زائفة تتزين بالإنسانية طوال الوقت، حتى وإن كانت صورية أو مزيفة، فالأحداث الجارية غير إنسانية على الإطلاق.
لو سألك صحفي عن أهم الروايات أو الأفلام السينمائية التي نالت إعجابك، بشرط أن تكون نتاج الحرب العالمية الثانية، فماذا يمكنك أن تقول؟
هنا يكون السؤال في غاية الهدوء، اكتسب برودة الزمن، وتجمدت الآهات، وتصلبت الجراح، لابتعاده عن لهيب ورعب تلك الحرب المدمرة. فالحوار خارج دائرة الدمار الذي أحدثته الحروب. وإن أراد الصحفي توسيع مساحة الألم بذكر أفلام أو روايات جسدت تلك الكارثة الإنسانية، فسيأتي بأمثلة عديدة لذلك المنتج الفني، وتستطيع الرد بالتأكيد على أن الحرب هي مقصلة للوقت والأفراد معاً، وأنها الثنائي الحقيقي للحياة، فهي مدمرة لها، مثل الكبد الذي يكون مقبرة ومنطقة إنتاج في نفس الوقت.
فلماذا التركيز على المنتج الأدبي والفني للحروب الشاملة؟
فالسؤال الحقيقي هو: لماذا لا تموت الحرب عبر العصور، فعمرها طويل ولم تشِب، ففي كل حقبة زمنية تتجدد، وتضع كل مولود لها في بقعة جغرافية من الأرض. الحرب هي نتاج رغبة إنسانية تولد الدمار، وتحمل في طياتها بذرتين (الحياة والموت)، وكل منهما تعمل لتحقيق أهدافها.
ليس من الحكمة أن نقترب من نار ملتهبة لنتأكد من أن الحرب تنتج فناً عظيماً.
لسنا بحاجة إلى مسرحية (جنرال الشيطان) التي سلط فيها كارل تسوكماير الضوء على الماضي النازي الملطخ بالصراع بين الضمير والطاعة، وتدهور القيم الذي أفرز ذلك الوحش النازي المدمر للإنسانية. كما أننا لسنا بحاجة إلى لوحة فنية تمدح قرارات الرئيس ترمب أو ترفضها.
نعم، الواقع مليء بالمسرحيات التي لا نكتشف أبطالها إلا بعد فوات الأوان، ولن نُخدع بروايات تُوصف بالإبداع بعد موت الملايين. هذا ما تفعله الأعمال الفنية والأدبية بعد وقوع الكارثة، فتكون مثل النائحة المستأجرة التي تبكي على من لا تعرفه. هذا هو حال الفنان أو الأديب بعد (حرق مالطا). فالأعمال الفنية التي تخرج من أتون الحروب تشبه ما يفعله حيوان (الضبع) الذي يعيش على الجيف، بينما لا يكون له دور أمام الأحياء، أو كعمل (المتسبب) الذي يبحث في الأنقاض عما يجده ليبيعه.
فما يُكتب من رواية أو شعر بعد أي دمار، يكون المنتج كتوزيع وجبة مؤلفة بشكل أساسي من الدماء المتخثرة.
عندما نسترجع الذاكرة إلى الإنتاج الأدبي بعد الحرب العالمية الثانية، نكتشف حقيقة مرة تتمثل في تأخر الأدب عن الواقع. كانت الرؤية المستقبلية ضبابية، ومهما كانت روعة ما كُتب عن الدمار، فإنه لا يفي بحجم كارثة الحروب. فلوم الروائي الألماني هاينريش بول في رواية (صورة جماعية مع السيدة) بأن الحرب كسرت القيم والمثاليات، إلا أن اندلاع الحرب هو الكسر الفعلي للإنسانية. فهاينريش لم يقدم إنتاجه الأدبي إلا بعد الحرب والدمار، فكيف أسس لومه؟ لم يكن هناك تأسيس للوم أو الحزن، فمثله روائيون كثر كانت كتاباتهم ردود فعل لما أحدثته الحرب من دمار. وحين كتب الروائي غونتر غراس رواية (الطبل والصفيح)، أراد لذاته ألا تكبر، وليس بطل روايته هو المعني بذلك، هو أراد بتلك الحيلة السردية البقاء في أزمة وأزمنة الحرب لكي يتماسك حيال انكسار الذات وعدم تلاؤمها مع ما حدث، كما أن روايته (سنوات البؤس) جاءت لاحقة في تجسيد بؤس الكتابة الإلحاقية، المتأخرة التي تؤكد عجزها عن استشراف ذلك الدمار.
كل الآداب والفنون التي تلت الحروب ما هي إلا صور فوتوغرافية التقطت بعد وقوع الكارثة، إلا أن تلك الأعمال الأدبية والفنية صور تزين مدخل مقهى لاحتساء مشروب قديم، وتوهمنا على قرع الكؤوس بأن الصور المأخوذة كانت بديعة في صياغتها الأدبية، وقاسية في تجسيد ما حدث، وشاهدة على أن الحرب هي تدمير للإنسانية. وكلما ابتعدنا عن زمن الحرب، نتغاضى عن الجماليات الفنية لما كُتب عن كوارث الحروب.
الآن، ونحن نعيش تقلبات الحروب المتناثرة التي قد تتحول إلى حرب شاملة، فإن ما ستنتجه من أدب وفن سيكون وجبة شهية للأجيال القادمة، يتناولونها بشغف باعتبارها الإبداع الحقيقي لهذه الحقبة الزمنية.
نعم، ستنتج تلك الحروب المدمرة فنوناً، وسيحمل منتجوها ألقاباً وأوصافاً إبداعية، وسترتفع الأصوات بأنهم ناصروا صحوة الضمير الإنساني، ولكن الحقيقة هي: موت الإنسان تحت وطأة القصف المدفعي والقنابل المتفجرة والطائرات المسيرة. حقاً، لم يكن للمتحاربين ضمير إنساني خلال كل الحروب، فليست هناك إنسانية في فترة الحرب ذاتها أو بعد انتهائها.
الواقع المرير يمتزج بجماليات زائفة تتزين بالإنسانية طوال الوقت، حتى وإن كانت صورية أو مزيفة، فالأحداث الجارية غير إنسانية على الإطلاق.
لو سألك صحفي عن أهم الروايات أو الأفلام السينمائية التي نالت إعجابك، بشرط أن تكون نتاج الحرب العالمية الثانية، فماذا يمكنك أن تقول؟
هنا يكون السؤال في غاية الهدوء، اكتسب برودة الزمن، وتجمدت الآهات، وتصلبت الجراح، لابتعاده عن لهيب ورعب تلك الحرب المدمرة. فالحوار خارج دائرة الدمار الذي أحدثته الحروب. وإن أراد الصحفي توسيع مساحة الألم بذكر أفلام أو روايات جسدت تلك الكارثة الإنسانية، فسيأتي بأمثلة عديدة لذلك المنتج الفني، وتستطيع الرد بالتأكيد على أن الحرب هي مقصلة للوقت والأفراد معاً، وأنها الثنائي الحقيقي للحياة، فهي مدمرة لها، مثل الكبد الذي يكون مقبرة ومنطقة إنتاج في نفس الوقت.
فلماذا التركيز على المنتج الأدبي والفني للحروب الشاملة؟
فالسؤال الحقيقي هو: لماذا لا تموت الحرب عبر العصور، فعمرها طويل ولم تشِب، ففي كل حقبة زمنية تتجدد، وتضع كل مولود لها في بقعة جغرافية من الأرض. الحرب هي نتاج رغبة إنسانية تولد الدمار، وتحمل في طياتها بذرتين (الحياة والموت)، وكل منهما تعمل لتحقيق أهدافها.